يقول تعالى في كتابه الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. فأول صفة من صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة.. لم يقل: يخشعون، بل: {خَاشِعُونَ}.. أي هذهِ صفة متميزةٌ أصيلةٌ في أنفسهم، يقال: أن هذه من الآيات الأنفسية، والقرآن الكريم بهذهِ الآية أثبتَ كرامة.. البعض لو تخيره بين صلاة ركعتين، وبين الركض في الملعب نصف ساعة؛ فإنه يختار الركض، لأن ذلك أهون عنده من الصلاة، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.. والغريب أنَ البعض منا في المشاهد المشرفة: يزور المعصوم ساعة من الزمان، ويقرأ الزيارة الجامعة الكبيرة، فيخشع ويبكي ويزور الإمام، وإذا أراد أن يصلي ركعتي الزيارة؛ يراها ثقيلة على نفسه.. والملفت أيضاً في ليلة القدر: بعضُ المؤمنين من أذان المغرب إلى مطلع الفجر في عبادة دائمة، وإذا أذّنَ المؤذن لصلاة الفجر، عادت المشكلة، يُريد أن يصلي ركعتين خاشعتين؛ لا يمكنه ذلك.
إن الصلاة معجزة، كأنَ الله -عزَ وجل- يريد أن يقول: أنا الذي أختارُ المصلي الخاشع، أنتَ لا يمكنكَ الخشوع، صلِّ ما شئت!.. وأجركَ عليَّ يوم القيامة، أعطيكَ ما تشاء من حور وقصور.. ولكن أن تخشعَ في الصلاة {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.. فإذن، هُنالكَ أمر ما وراء الغيب، هذا سُترَ عنا.. أنظروا إلى ملكوت الصلاة، وباطن الصلاة، ليس هذه الحركات المعهودة فحسب!.. وروايات النبي -صلى الله عليه وآله- وأهل البيت (ع)، تدل على هذه الحقيقة.
عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إِذَا قَامَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاتِهِ، نَظَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ -أَوْ قَالَ: أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ- حَتَّى يَنْصَرِفَ.. وَأَظَلَّتْهُ الرَّحْمَةُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَى أُفُقِ السَّمَاءِ، وَالْمَلَائِكَةُ تَحُفُّهُ مِنْ حَوْلِهِ إِلَى أُفُقِ السَّمَاءِ، وَوَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكاً قَائِماً عَلَى رَأْسِهِ يَقُولُ لَهُ: أَيُّهَا الْمُصَلِّي لَوْ تَعْلَمُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَمَنْ تُنَاجِي؛ مَا الْتَفَتَّ وَلَا زِلْتَ مِنْ مَوْضِعِكَ أَبَداً).
وعن الإمام علي (ع) أنه قال: (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره أن يرفع رأسه من السجود).
وعن الإمام الصادق (ع): (إِذَا قَامَ الْمُصَلِّي إِلَى الصَّلاَةِ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مِنْ أَعْنَانِ السَّمَاءِ إِلَى أَعْنَانِ الأرْضِ، وَحَفَّتْ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ: لَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُصَلِّي مَا فِي الصَّلاَةِ مَا انْفَتَلَ).
(لَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُصَلِّي).. أي أنه ما ترك الصلاة، لو التفت إلى ملكوت الصلاة، والمعاني التي تحملها الصلاة بين يدي الله عز وجل.. ما الذي جعل يوسف يفضل السجن على قصرِ زليخا؟.. وما الذي جعلَ الإمام موسى بن جعفر (ع) يشكر الله -عز وجل- على نعمة الخلوة؟.. من أهم مؤنسات الأنبياء والأوصياء والأئمة؛ هذهِ الصلاة بين يدي الله عزَ وجل.. متعتهم في الحياة هيَّ هذهِ الصلاة!..
ولكن هل الملائكة تحفّ بالمصلي الذي يعبثُ بلحيتهِ، أو بإنسان يصلي صلاة شكلية؟!.. هنالكَ عذابٌ يمرُ بهِ جميع الناس: في البرزخ، وعندَ البعث، وفي القيامة.. ولعل هذا العذاب للناس جميعاً حتى المؤمنين، ما عدا الأنبياء والمعصومين.. هذا العذاب يلازم الإنسان من ليلة الوحشة إلى دخول الجنة، لا عذاب العقارب والحيات؛ إنما الحسرة القاتلة {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.. كلنا نتحسر: كم صلينا صلاة في أعمارنا، كم صلينا في المساجد؟!.. هذهِ الصلاة من الممكن تطويرها، كما نتطور في الحياة: كُنا غير بالغين صرنا بالغين، أحدنا كانَ أعزب تزوج، كان عديم الذرية صارت لهُ ذُرية وأحفاد، كانَ مستأجرا أصبحَ مالكا.. ولكن صلاته لم يطورها، بقيت على ما هي عليه: بسهوها، وغفلتها، وشكوكها.
إن الإنسان الخاشع لا يسهو في صلاته!.. فالركعة الأولى: حديث مشتاق مع رب العالمين.. والركعة الثانية: محطة مناجاة مع رب العالمين.. وفي الركعة الثالثة: يتذكر أنه قبلَ قليل قنت في صلاته ودموعه لم تجف بعد.. بينما الركعة الرابعة: فيها رائحة الوداع، بما تستلزمه من الهم والغم؛ فيعيش ألم الفراق، إذ أن الإنسان بعد لحظات سينتهي من لقاء الله عز وجل.. ولهذا البعض يطيل في الركعة الأخيرة في السجودِ؛ لئلا يخرج من حديقة المصلين.. فعالم القنوت عالم يغاير تماماً عالم التشهد والتسليم، فكيف يخلط المؤمن بين الركعة الثانية، وبين الركعة الرابعة؟!.. بل حتى الركعة الثالثة؟!.. لا مجال للسهو في هذه الحالة!.. مثل إنسان يمر على حديقة غناء: في كل حديقة ورود وزهور، وكل يوم يمر بهذهِ الحديقة.. فطبيعة الورود في هذهِ الخطوة، تختلف عن الخطوة الثانية، من حيث الرائحة والمنظر.. إذن، المؤمن لا يسهو في صلاتهِ أبداً!..وعليهِ، لابدَ من تطوير هذهِ الصلاة ..
كيفَ نصلي صلاةً خاشعة؟..
- التهيؤ النفسي: مسألة الدخول في بحر الصلاة، تحتاج إلى تهيؤ نفسي مسبق.. فقبل دخول الوقت، يا حبذا لو يجعل الإنسان حائلا بينه وبين الصلاة؛ أي منطقة برزخية حائلة بين العالمين: فلا هي صلاة، ولا هي تعامل مع البشر.. فعلى الإنسان أن يجلس في المصلى قبل أن تغرب الشمس، وفي مكان يهيئ نفسه للدخول بين يدي الله -عز وجل- بذكر بعض التسبيحات، والتهليلات، وباقي المستحبات بحيث يخرج تدريجياً من جو التفاعل مع عناصر هذه الدنيا.
إقتراحات في هذا المجال:
أولاً: تلقين الشوق.. إن على الإنسان أن يعيش حالة من الترقب للصلاة، فالإنسان المؤمن الذي يريد أن يصل إلى ملكوت الصلاة، لابد وأن يعيش هذا الهاجس قبل دخول الوقت، مترقبا للصلاة بكل شوق.. فيقوم بصلاة ركعتي تحية المسجد مثلا.. وهذا بمثابة تدريب له، حتى لو سها أثناء الصلاة؛ فرب العالمين لا يؤاخذه على ذلك.
ثانياً: الخوف من عدم القبول:ماذا نقرأ بعدَ الصلاة الواجبة (إلهي!.. هذه صلاتي صليتها: لا لحاجة منك إليها، ولا رغبة منك فيها.. إلا تعظيما، وطاعة، وإجابة لك إلى ما أمرتني به.. إلهي!.. ان كان فيها خلل أو نقص من ركوعها أو سجودها؛ فلا تؤاخذني، وتفضل علي بالقبول والغفران برحمتك يا ارحم الراحمين).. أي أنا أخاف من المؤاخذة بين يديك يا رب العالمين.
ثالثاً: معرفة عظمة من نقف بين يديه.. تقول أم المؤمنين عائشة: (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يحدثناونحدثـه، فإذا حضرت الصلاة؛ فكأنه لم يعرفـنا ولم نعرفه)
رابعاً: مراقبة السلوك بين الفريضتين.. من موجبات التوفيق للصلاة؛ مراقبة السلوك بين الحدين.. فمن المعلوم أن الذنب السابق للصلاة؛ يؤثر على توجه الإنسان، فعندما يأتي إلى الصلاة، يأتي وهو يعيش جوا من أجواء البعد عن الله عز وجل.. إذا رزق الإنسان صلاة ظهر خاشعة، ويريد صلاة مغرب خاشعة أيضاً؛ عليه أن يكون محتاطاً، ومُراقباً.. فلا ينظر إلى كل ما هبَ ودبّ، ولا يسمع كل ما هبَ ودبّ.
نحنُ علاقتنا بالله -عز وجل- منحصرة بهذهِ الصلاة.. فالصوم، مرة في السنة، والحج في العمر مرة، والخمس في السنة مرة.. أما الصلاة اليومية، فهي الحبل الممدود بيننا وبين رب العالمين.. إذا هذهِ الصلاة لم تتحول إلى ذكر؛ ما بقيت علاقة في البينِ أبداً!.. أنظروا إلى قولهِ تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}؛ هنالكَ غاية..
سامحوني على الإطالة فالموضوع مهم وشيق
أم عبادي